( وهذه مناورة أخرى يهدف بها دعاة العلمانية إلى إحراج العمل الإسلامي بالتشنيع عليه بأنه يغذ السير بالناس إلى دولة مجهولة، ويدعو الناس إلى منهج لم يسبر أغواره ولم يعرف أبعاده، فهو لا يعرف تفاصيل هذا المنهج ولا يملك برامج عملية لوضعه موضع التنفيذ، مثله كمثل رجل ظل يلح على آخر حيناً من الدهر بأن يدخل في الإسلام، وتوعده إن أعرض بسوء المآل فقال له : ماذا أفعل لكي أسلم، فقال : لا أدري
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:
أولاً : إننا لا نبتدع في الناس أمراً لا عهد لهم به من قبل، بل نردهم إلى ما درجوا عليه وعاشوا في ظله ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ولم يتوقف إلا على يد الاستعمار الكالح الذي وطئت خيله الأزهر على يد نابليون، وقتل الأبرياء في دنشواي على يد كرومر، ومكن لليهود في فلسطين على يد بلفور، وفعل بأمتنا الأفاعيل والعجائب.
وطـنـي كـم صنم مجدته لم يكن يحمل طُهْر الصنم
لا تلومي الذئب في عدوانها إن يك الراعي عدو الغنم
ثانياً: إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهي التي تتبنى الإسلام بشموله عقيدة وشريعة إقراراً به، وعملاً بموجبه، ودعوة إليه، وولاء وبراءً على أساسه، وإن مفتاح التغيير المنشود هو التعبير عن سيادة الشريعة وأنها وحدها الحجة القاطعة والحكم الأعلى، وأن كل قانون يتعارض معها فهو باطل يجب على المحاكم أن تمتنع عن تطبيقه تلقائياً لمخالفته لمبدأ المشروعية، ومن حق أي مواطن أن يطعن أمامها ببطلان أي قانون يُعتقد مخالفته للشريعة، وتقضي ببطلانه إذا ثبت لديها ذلك.
ثالثاً : هب أن المنادين بتحكيم الشريعة لا يملكون هذه البرامج وتنقصهم الكفايات والتخصصات النظرية أو العملية فأين ذهبت الجهات المتخصصة التي تقدر على ذلك في بلادنا الإسلامية؟ والتي إذا استنفرتها الدولة نفرت وإذا دعتها لبت؟ ألسنا نعلن أننا مسلمون ديننا الرسمي هو الإسلام؟ والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ وعلى أرضنا توجد أعرق جامعات العالم وبلادنا هي التي تُصَدر العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفي غيرها إلى جميع أنحاء العالم ؟
إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست برنامجاً حزبياً تطرحه فئة محدودة على أرض الوطن، إنها إرادة هذه الأمة، والدين الذي يستمسك به الكافة، فهي فوق الأطر الحزبية، والتنظيمات السياسية، والخلافات المذهبية، والدولة كل الدولة حكومة ومعارضة مسئولة أمام الله عز وجل عن أن تقيم هذا الدين، وأن تُجيِّش له الطاقات، وأن تعد له الرجال، وأن توظف كل إمكاناتها المادية والبشرية لإقامته على وجهه كما أمر الله.
إن هذا العمل مسئولية أمة وليس مسئولية حزب من أحزابها، أو تيار من تياراتها الفكرية أو السياسية، ولا حرج على الدعاة إلى الله –بل يجب عليهم- إن هم رأوا تعطيلاً لشرائع الله وتحاكماً إلى غير ما أنزل الله، أن يصدعوا بالنصيحة الواجبة، وأن يجهروا بكلمة الحق في مختلف المواقع، وأن يطلبوا كل قادر ومتخصص أن يدلي بدلوه وأن يبذلوا قصارى جهدهم لتقويم هذا الخلل، وإعادة الدولة إلى الإسلام، وحسبهم أن يشاركوا في ذلك بقدر ما تؤهلهم له قدراتهم وتخصصاتهم، وألا يضنوا على ذلك بوقت ولا جهد ولا مال.
رابعاً : إن الجامعات الإسلامية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ودور الفتوى في العالم الإسلامي رصيد هائل للدعوة إلى تطبيق الشريعة ، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات والكفايات النادرة المتخصصة ما يفوق الحصر ويذهل العقل . فهل يصح مع ذلك أن يقال: إن الدعوة إلى تحكيم الشريعة دعوة عاطفية تفتقد البرامج التفصيلية والكفايات العملية؟ أليس هذا غمطاً للأمة كلها واتهاماً لجميع مؤسساتها وجامعاتها بالعقم والسلبية والقصور بل بالخيانة وإضاعة الأمانة ؟
إن ما كتب في مجال الاقتصاد الإسلامي من الدراسات والبحوث الإسلامية المتخصصة رغم حداثة العهد بالكتابة في هذا المجال يبلغ بضع مئات وفق التقرير الذي قدم إلى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة قبل ما يزيد على عشرين سنة ! ترى كم بلغ عددها الآن؟ وما عدد الدراسات المتخصصة في المجالات الأخرى التي لا يزال المتخصصون فيها يكتبون منذ أمد بعيد؟ إن الأزمة التي تواجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست أزمة برامج وتفصيلات وإنما هي أزمة إرادة سياسية قادرة على التغيير واتخاذ القرار! ولو وجدت هذه الإرادة لتحوّلت كل كفايات الأمة ومؤسساتها إلى جنود في معركة التطبيق، ولتحولت القيادة السياسية إلى غرفة عمليات تشرف على ذلك كله، تحث الخطى وتوجه المسار!
خامساً : إن العلمانيين وخصوم الشريعة عندما يرددون هذه الشبهة فهم محجوجون بمنهج التغيير الذي اعتمدته كبريات الحركات الأيديولوجية العالمية التي لم تعن إلا بالعقائد والمبادئ الأساسية، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات.
فالثورة الفرنسية تجمع الناس حول ثالوثها المعروف: الحرية والإخاء والمساواة، ومن خلاله عرف الناس أي مجتمع تنشده هذه الثورة.
والشيوعية لا تعني في بداية الأمر إلا بالعقائد الاشتراكية الكبرى والمبادئ الرئيسية العامة، وكان جل اهتمامها منصباً على الجانب السلبي الذي يجب هدمه حتى يمتهد الطريق لإقامة اقتصاد اشتراكي، أما الخطوات الجزئية والبرامج التفصيلية فلا تكاد تجد في كتابات روادها الأوائل ما يغطي شيئاً من ذلك، بل إن ماركس في رسالته التي كتبها إلى صديقه (تيسلي) عام 1869م اعتبر ذلك من قبيل الرجعية، وأن من يرسم خطة للمستقبل يكون رجعياً، ومن هنا يقرر ندلوب ميلا أن ماركس كان بخيلاً جداً في تحديد المجتمع الجديد وفي امتناعه عن إعطاء أية صورة واضحة عنه.
يقول مؤلفو علم الاقتصاد الحديث : (لقد ركز كل من " ماركس " و" لينين " اهتمامهما في العقائد الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك عندما تسلم "البولشيفك" زمام السلطة سنة 1917م لم يكن أمامهم أي مخطط جاهز للنظام الاقتصادي الذي ستنشئه ديكتاتورية العمال، ولقد حاولوا لفترة قصيرة تطبيق نظرية ماركس في " القيمة المنبثقة من العمل " لكنهم تخلوا عن هذه المحاولة، وأظهر " البولشيفك " براعة سياسية أمنت لهم البقاء في الحكم، وأخذوا يطبقون التجارب على مر السنين حتى أنشأوا النظام الروسي الحالي، وربما كان باستطاعة الزعماء الروس أن يكتشفوا نفس النتائج بطريقة أقصر، وكلفة أقل لو درسوا علم الاقتصاد دراسة نظامية، ولكن عقيدتهم الماركسية كانت تنكر هذا العلم من أساسه) اهـ
فإذا كان هذا هو المنهج مع كبريات الحركات العالمية التي ينتمي إليها هؤلاء الخصوم فلماذا يطالبون العمل الإسلامي وحده بأن يقدم ابتداءً برامجه التفصيلية وحلوله العملية لكل جزئية من جزئيات الحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي اعتبره قادتهم وأئمتهم من جنس الرجعية والتخلف ؟
سادساً : إن كثيراً من مشكلاتنا المعاصرة هي نتاج لهذه المناهج الوضعية السائدة في بلادنا، وترتبط بها وجوداً وعدماً ، وقد يختفي كثير منها بحلول أيديولوجية أخرى لتنشأ مشكلات من نوع آخر وتحديات من لون جديد ، فلماذا نفترض أن كل علل مجتمعاتنا سوف تبقى في ظل تحكيم الشريعة، وأن علينا أن نستغرق في وضع الحلول التفصيلية لها من الآن؟ ألا يعد هذا من قبيل العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ؟! ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق