الشبهة(6): تحججهم بوجود طوائف غير مسلمة .



وللإجابة عن هذه الشبهة( نقول وبالله التوفيق :
أولاً : إنه لا يُقبل شرعاً ولا عرفاً ولا ديمقراطياً أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لاسيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات، ماذا لو حدث العكس، وكان المسلمون هم الأقلية؟ هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟

ثانياً : إن الدولة القومية التي تنشدها هذه الأقليات التي تفصل فيها الدولة عن الدين، وتنفصم بها عرى الموالاة بين المسلمين تتعارض تعارضاً جذرياً مع أصل الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا سبيل إلى القبول بها إلا يوم أن نقرر أننا قد تخلينا عن ديننا وخلعنا ربقة الإسلام من أعناقنا وهيهات هيهات أن نكفر بالله ورسوله!
ثالثاً : إنه فيما عدا الولايات التي يُعتبر الإسلام فيها شرطاً لانعقادها تُفتح أمامهم كافة الأبواب للمشاركة الكاملة في بناء هذا الوطن شأنهم في ذلك شأن المسلمين سواء بسواء، وغني عن الذكر أن صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم حقوق مقدسة لا مماراة فيها ولا جدال، ولا نرى حرجاً أن تصدر في شئونهم وثيقة خاصة ينص فيها على مركزهم القانوي في المجتمع من حقوق وواجبات إن هم رغبوا في ذلك وتكون ملحقة بالدستور، وتتمتع بنفس القوة التي يتمتع بها، ولهم أن يشترطوا لأنفسهم ما يشاؤون من ضمانات لكفالة حقوقهم المشروعة وعدم المساس بها من أحد من الناس، ثم بعد بهذا يعيشون كما عاش أجدادهم في هذه البلاد ولمدة تزيد عن ثلاثة عشر قرناً من عمر الزمان في ظل تحكيم الشريعة ؛ آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم، لم تمتد إليهم يد بسوء، ولم يُكرهوا كما أكره المسلمون في الأندلس على تغيير دينهم، ولو أن المسلمين في الشرق توجهوا إلى شيء من ذلك ما بقي نصراني واحد في بلادنا إلى اليوم.
ملكنا فكان العفو فينا سجية                     فلما ملكتم سال بالدم أبطح
ولنستمع إلى شهادة كبار المؤرخين وهم يعقدون المقارنة بين نصارى الشرق وبين المسلمين في الغرب ومدى ما يتمتع به هؤلاء وأولئك من الحقوق والواجبات.
يقول الوزير دوجو فارا صاحب كتاب (مائة مشروع لتقسيم تركيا) فيما ينقله عنه الأمير شكيب أرسلان: (إن الدولة المسيحية ظلت مدة ستة قرون (699-1299هـ) تهاجم الدولة العثمانية الإسلامية رغم تسامح المسلمين وحسن معاملتهم لرعاياها من المسيحيين، ويقول: إن من أعظم أسباب انحلال هذه الدولة الإسلامية هو مشربها من إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية للأمم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين –المذهبية والمدرسة- كانت تبث دعايتها القومية للانفصال عن السلطة العثمانية).
ويقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذين كانوا يرغبون في نشره في العالم... ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون –الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة- أن النظم والديانات ليست مما يُفرض قسراً ؛ فعاملوا –كما رأينا- أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم).
وننقل عن جوتيه في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم قوله: (ولقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية في فضيلة المسامحة التي لم تكن تتوقع من أناس يحملون ديناً جديداً. وما فكر العربي قط في أشد أطوار تحمسه لدينه الجديد أن يطفئ بالدماء ديناً منافساً لدينه) .
ويقول ريتشارد ستيبز من أبناء القرن السادس عشر: (وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب... فقد سمحوا للمسيحيين جميعاً –للأغريق منهم واللاتين- أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخرى كثيرة جداً، على حين أستطيع أن أؤكد بحق بدليل اثني عشر عاماً قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا.
وهذا ما جعل بطريارك أنطاكية واسمه ماركوس يقول: أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد! فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان، سواء كان رعاياهم مسيحيين أو يهوداً أو سامرة).
ويقول القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الأنجيلية في مصر: (في كل عهد أو حكم التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين –والمسيحيين على وجه الخصوص- بكل أسباب الحرية والأمن والسلام .. ) .
وأخيراً ننقل هذه الوثيقة وهي من القرن التاسع عشر وتتمثل في نص الفرمان (الظهير) الذي أصدره السلطان محمد بن عبدالله سلطان المغرب في 5 فبراير سنة 1864م وهذا نصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر ولاياتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحداً منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وألا يعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم، وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، ونحن لا نوافق عليه، لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء، ومن ظلم أحداً منهم أو تعدى عليه فإننا نعاقبه بحول الله، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقرراً ومعروفاً محرراً، لكن زدنا هذا المسطور تقريراً وتأكيداً ووعيداً في حق من يريد ظلمهم وتشديداً ليزيد اليهود أمناً إلى أمنهم، ومن يريد التعدي عليهم خوفاً إلى خوفهم، صدر به أمرنا ، المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 1280 ثمانين ومائتين وألف).
أرأيت إلى هذا الإنصاف والتسامح ورعاية العهود والذمم الذي صحب الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها، وسطرته أقلام الكتّاب النصارى أنفسهم لتسجل ذاكرة الزمان أن تاريخنا لم يعرف اضطهاداً لأقليات تخالفنا في الدين وتشاركنا في الوطن، وليثبت للمرتابين تهافت التذرع بوجود أقليات في المجتمع المسلم إلى رفض الشريعة والاعتداء الظالم على دين المسلمين ).

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites