والجواب عن هذه الشبهة أن يقال : لا يخفى أن في القرآن أحكاماً كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة ؛كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية ... الخ هذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر سماه الإسلام.
ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين :
* إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين.
* وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السماوات تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً!، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرِّع جل في علاه، وكفر من يجتريء على ذلك معلوم بالضرورة من الدين.
وهؤلاء بهذا المسلك يجعلون الإنسان نداً لله الذي خلقه، بل هم –بهذا- يعلون كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله، ويمنحونه من السلطة والاختصاص ما يحجرون مثله على الله جل في علاه، وبهذا يصبح الإنسان "رباً" فوق الرب يحكم بما يريد، ويقضي بما يشاء!!
لقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه ، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية؟! ترى هل يبقى مع هذا المسلك أدنى مثقال ذرة من إيمان.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ( والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.
فمن زعم أنه دين عبادة فقط أنكر هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين في معرض رده على هؤلاء: (وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً... بل في القرآن آيات حربية وهذا يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام ) إلى أن يقول: (فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين).
ويقول الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية: (إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه، لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب –في حين أن العادة أن تكون الثورات من الشعب على الحكومة- وشق عصا الطاعة منها "أي من الحكومة" لأحكام الإسلام بل ارتداد عنه من الحكومة أولاً ومن الأمة ثانياً، وهو أقصر طريق إلى الكفر).
ويذكر الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي بمكة المكرمة، يذكر من مراحل الدعوة إلى الله: (التصدي لدعوى "فصل الدين عن الدولة" أو " عن السياسة"، بإبطالها، والبيان للناس جهاراً بأن السياسة عصب الدين، ولا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة "فصل الدين عن السياسة" في حقيقتها "عزل للدين عن الحياة"، ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام، وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش ؛ حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يداً على من سواهم عوناً على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين.
ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدّع الكفر والكافرين، ويقوّم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأدى إلا بسلطان "ذي شوكة" يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في "دائرة الإسلام" كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة.
وهذا التلاحم بين الدين والدولة هو حقيقة الوفاء بين الذين آمنوا بربهم –سبحانه وتعالى- للتجارة معه ببيع النفس والمال والولد في سبيله )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله( الآيات ).
ويقول الأستاذ عبد الحليم عويس في كتابه تطبيق الشريعة الإسلامية: (ويصل هؤلاء في حربهم لتطبيق الشريعة حد الخيانة العظمى لأمتهم وللحقيقة المجردة، وذلك حين يزعم بعضهم –هداهم الله- أن الشريعة مجموعة وصايا أخلاقية، وهم بهذا يلغون مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام، والتي قدرها الإمام الغزالي وابن العربي بخمسمائة آية نازعه ابن دقيق العيد في هذا التقرير وقال :إن مقدار آيات الأحكام لا تنحصر في هذا العدد بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط حتى من الآيات الواردة في القصص والأمثال.
وليس التشريع الإسلامي كليات مجملة –كما يعتقدون- بل هناك مجالات فصل فيها التشريع تفصيلاً محدوداً كالأحكام المتعلقة بالجهاد والدفاع عن النفس والعلاقات الدولية، وهناك مجالات فصل فيها الشرع تفصيلاً كافياً وشافياً مثل القصاص والحدود والحلال والحرام من الطعام والميراث وقوانين الأسرة، وغيرها، وينحصر مجال "الكليات" في بعض النظم السياسية التي تختلف صور تطبيقها، وفي قواعد الاجتهاد، وكل من ينكر أي حكم مفصل في القرآن والسنة أو يرفضه أو يكتب ضده ويعمد إلى تحريفه ؛ مثل من يحاول جعل ميراث الأنثى مثل ميراث الذكر، أو جعل شهادة المرأة في الشئون التي نص عليها القرآن مثل شهادة الرجل يدخل في دائرة الارتداد، فهذه أمور لا يتقبل الاجتهاد. { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
من أجل هذا كله كانت المعركة مستعرة وحامية الوطيس بين العلمانيين وبين الشريعة الإسلامية، فإن الشريعة هي العدو الأول لهم لأنها هي التي تهيئ للمجتمع سياجاً من القوانين يحميه من عدوان العادين، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان كما قال الخليفة الثالث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
هذا وإن في الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة بالإضافة إلى ما تتضمنه من الكفر والزندقة فإنها دعوة إلى تأليه الإنسان وإعطائه الحق في أن يشرع لنفسه فيما رفض فيه ولاية الإسلام عليه من أحكام المعاملات وشئون الدولة ونحوه، وقد تمهد في محكمات الأدلة أن التشريع حق خالص لله وحده من نازعه فيه فهو مشرك بالإجماع.
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ترفض الشرك في العبودية لله، أو الشرك في الولاء له، أو الشرك في الطاعة لحكمه، فالمسلم لا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً ولا يبتغي غير الله حكماً، كما وضحت ذلك سورة التوحيد.. سورة الأنعام في هذه الآيات: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:14] .
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[الأنعام:114] {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام:164] . إنما يجب أن يكون المسلم كله لله، وحياته كلها لله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
إن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية التي عرفها الفكر المسيحي والفكر الغربي الذي يشطر الإنسان، ويقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر، فليس قيصر نداً لله ينازعه في ملكه، بل هو عبد لله، يخضع لحكمه، ويدين لأمره ونهيه، كما يدين كل العباد ).
0 التعليقات:
إرسال تعليق